04 - 06 - 2025

ترنيمة عشق| وَلُّوا وجُوهَكُم شَطرَ الشَّرق

ترنيمة عشق| وَلُّوا وجُوهَكُم شَطرَ الشَّرق

ولأنَّه الابْن الأصْغر لأَبٍ أنجبَ تِسْعةً من الأبْناء، ولم يستطعْ والدُه -مُعلم الابتدائية- لبَساطة راتبِه أنْ يُوفِّرَ له درَّاجةً يذهبُ بها لمَدرستِه، يعملُ الصبي بائعًا للموز؛ فيفترِشُ الرصيف كل يوم؛ حتى يتحققَ حُلمُه ويلتحقُ بكلية الطب في سنغافورة، ويصبحُ رئيسًا لاتحاد الطلبة، فيبدو شَغَفُه بالعملِ العام مُبكرًا، يعودُ بعدها لبلاده الرازِحة تحت الاحتلال البريطاني حِينئِذ؛ مُفتتِحًا عيادته الخاصَّة؛ مُنفِقًا نِصفَ الوقت في علاج الفقراء مجانًا، فَرِداءُ الألَمِ والحاجَة لَمْ يخْلعْه إلا قريبًا؛ لكنه مازال يَستشْعرُ قَسوتَه وخُشونتَه. 

د.مُحمَّد مَحاضِير -أو مَهاتير كما يَنطِقُه الغرب- رئيس وزراء ماليزيا؛ الذي تخلى عن كرسي السُّلطة بإرادته؛ وهو في قِمة مَجده وعَطائه المُتَّقِد راضيًا مَرضيًّا؛ بما حققه من إنجازاتٍ لبلده المنتمي للعالَم الثّالث البَئيس، ليُصبحَ بلدًا مُتطورًا يُشار له بالبنان، ذلك النَّمر أو المَارِد الأسْيوي الرّابع اقتصاديًّا بعد الصّين واليابان والهند، وقبل أنْ تسألَه يَبوحُ بسِرهِ الخَبِيء حالَ زيارتِه للأسكندرية مِنْ سنواتٍ؛ فيقولُ كيف أنَّه استلهمَ مَعالمَ نهضةِ ماليزيا مِنْ "محمد علي"؛ آكِدًا على أنَّ مِصر قادرةٌ بدورِها أنْ تصيرَ واحدةً من الدّول المتقدمة؛ شَرط الاهتمام بالتّعليم، والحَدّ من البطالة، وتشجيع الاستثمار، والكَفّ عن الاقتراض مِنَ البنوك. 

وجَّهَ الطّبيب النَّابِه وجْهَهُ شَطْر السّياسة، ليفوزَ بمقعدٍ بمجلس الشّعب، ثمَّ وزارة التّعليم، حتى استقرَ به المُقام في رئاسة الوزاراء مُدة 21 عامًا؛ يعملُ يوميًّا 16 ساعة؛ يَبْغي مستقبل بلادِه ولو كَرِهَ الغربُ ويهودُ العالَم؛ فلطالَما جَهرَ بأنَّ اليهودَ هم المُسيطرون على القرارِ الدولي، وهم مُشعِلو نِيران الحروبِ ضد المسلمين، لذا لمْ يخضعْ لسَطوة الانبهارِ بالغرب، وكان يَنصحُ دائمًا أنْ نُولِّي وجُوهَنا شَطْرَ الشَّرق وحضارتِه، فالتّغْيير لابدَّ أنْ يكونَ بمعاييرٍ شرقيةٍ لا غربيةٍ. 

(دوا وا بولو-دوا وا بولو) باللغةِ "المالاوية" الرَّسْمية؛ وتَعنِي عِشرين/عِشرين، عُنوان الخُطة التي وضعَها "محاضير"؛ ليتحققَ في العام 2020 حُلمُه؛ بأنْ تنتقلُ بلادُه مِنْ مَرحلة المارِد الأسيوي إلى أنْ تقفَ في مَصافِّ الدول الكبرى كَتِفًا بكَتِفٍ.. مِن خلال وضْعِ أهدافٍ ونتائجٍ يجبُ تحقيقُها خلال عَشْر سنواتٍ، وأخرى خلال عِشرين سَنةٍ؛ في بلدٍ لا تتعدى مساحتُه رُبْع مِساحة مِصر؛ يَموجُ بصراعاته الطّائفية بين أتباع 18 ديانة سماوية ووضعية؛ واختلافات عِرقية بين "مالايو" يُمثلون 58% من السُّكان، وصينيون بنسبةِ 24%، وهنود نحو 4%، ووسْطَ فَقْرٍ مُدْجعٍ لشعبٍ لا يُجيدُ العَيشَ إلا وسْطَ زِراعاتِ المطّاط والمَوز والأناناس وصَيد السّمك. 

وقَرَ لدَيه أنّ التّعليم والبحث العلمي هما الأولوية على رأس "أجندته"، فخصصَ لهما أكبر ميزانية، وضمَّنَ الكتب مُذ مرحلة رَوضة الأطفال معنى الانتماء للوطن، وعاقبَ الأباء الذين يمتنعون عنْ إرسالِ أطفالهم للمدرسة، وقدَّم المُساعدات والمِنح المجَّانيةِ للطّلابِ ذَوي الأُسر الفقيرة، وأدْخلَ في التعليم الثانوي بجانب العلوم والآداب موادًا تهتم باكتشاف وثَقْل المَواهبِ، وأنشأَ المعاهِد الفنية للتأهيلِ الحِرَفي، وأرسلَ عشراتِ الألاف من الطلاب كبعثاتٍ للدراسة في أفضل الجامعات الأجنبية، وأَقامَ أكْبرَ جامعةٍ إسلامية في العالم؛ غدتْ مِنْ أفضلِ خُمسمائة جامعةٍ على مستوى العالَم؛ يتكالبُ عليها الطلاب مِنْ كافة الأصْقاعِ للالتحاق بها،فَتحَ البابُ أمام طلاب المدارس للمشاركة في وضع المناهج التّعليمية، وجعلَ للرحلات العلمية والترفيهية خَلاقًا وافِرًا من الميزانية لتوليدِ الطّاقات الإبداعية لديهم. 

في قِطاع الزّراعة؛ غرَسَ مليون شَتلة نَخيلِ زيت، وخلال عامين أصبحتْ ماليزيا أكبر دولةِ في العالم إنتاجًا وتصديرًا لزيت النَّخيل، أمَّا الصّناعة فركَّز على تصنيع الأجهزة الكهربية والحاسبات الإلكترونية، وفي السّياحة اعتمدَ خُطة تَستهدفُ تحقيقِ دخْلٍ قَدْره 20 مليارًا من الدّولارات؛ فإذ به يصل لـ 33 مليارًا، شجَّع الاستثمارات المحلية والأجنبية؛ بنَى أعلى بٌرجين تِجاريين توأمين في العالَم "بتروناس"، وفي يوم الافتتاح قال لشَعبِه: "آَنَ لكم أنْ ترفعوا رؤوسَكم وتَنظروا عَاليًا".. ويُذْكَرُ أنَّه في زيارتهِ لأمريكا؛ إذ بـ "رونالد ريجان" ينظرُ لقادة العالَم الثّالث بشيءٍ من الغُرور، ولمَّا اقتربَ منه أشارَ إلى بُرجي التّجارة العالمية بأمريكا باعتبارهما الأطْول في العالَم، فَرَدَّ عليه "مَحاضير": "سيكونُ بماليزيا قريبًا ما هو أطْول مِنهما"، وبالفعلِ تحقّقتْ نُبوءته، بينما بُرجا أمريكا صَارا الآن تاريخًا وأثرًا بعدَ عَينٍ. 

تضاعفَ عددُ السكان في عهدِه، وزادَ دخْلُ الفرد من 100 دولارٍ سنويًّا إلى 16 ألف دولارٍ، ووصلَ الاحتياط النقدي لبلاده مِنْ 3 مليار دولار إلى 98 مليار دولار، وتخطَّتِ الصادرات حاجز 200 مليار مٍنَ الدّولارت..... حتى صارتْ مُعجزة ماليزيا دَرْسًا ومَعْلَمًا لدول العالَم الأول قَبل الثالث، وطَفِقَتْ دول أوروبا وأمريكا تبحث السِّر وراء تفوق النّظام التّعليمي الماليزي، وأُلِفت عن د."محمد مَحاضير" العَديدُ من الكتب؛ وَسَمَتْه: "الرجلِ العاقلِ الذي أتى في زَمنِ الجُنون". 

وفي مِصر؛ والتي تتشابه ظروفُها مع ذلك النَّمر الأسيوي النَّاهِض؛ بلْ وتَفُوقُه إمكاناتٍ وثرواتٍ مادية وبشرية، هل يَحقُّ لنا أنْ نتساءلَ: متى نَحْذو حَذْوَ ذاك البلد الفَتِّي، ونمْضِي على دَرْبِه مُستنيرين بتجربتِه الماثِلة أمامَنا رَأْيَ العَيْنِ؟

مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | إعلام زليخة